والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الشافعي في رفع اليدين في صلاة الجنازة: ترفع للأثر والقياس على السنة في الصلاة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبرها في الصلاة وهو قائم.
وفي الحقيقة لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح في رفع اليدين في صلاة الجنازة، وإنما ثبت في التكبيرة الأول، وهو ما ذكرت، وهو ضعيف كما قرر ذلك جم غفير من الحفاظ، أمثال البيهقي وأبو داود وغيره.
فلذلك قالت طائفة من أهل العلم ترفع الأيدي مع التكبيرة الأولى فقط، وهذا مذهب أبي حنيفة في ظاهر الرواية عنه وهو اختيار ابن حزم الظاهري وهو قول الشوكاني ونقل عن جماعة من السلف كابن عباس وابن مسعود وسفيان الثوري وغيرهم.
قال ابن حزم: (وأما رفع الأيدي فإنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفع شيء من تكبير الجنازة إلا في أول تكبيرة فقط، فلا يجوز فعل ذلك لأنه عمل في الصلاة لم يأت به نص) [المحلى 3/351].
وقال الشوكاني: (والحاصل أنه لم يثبت في غير التكبيرة الأولى شيء يصلح للاحتجاج به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) [نيل الأوطار 4/71].
وقال الشيخ الألباني: (ولم نجد في السنة ما يدل على مشروعية الرفع في غير التكبيرة الأولى فلا نرى مشروعية ذلك وهو مذهب الحنفية وغيرهم واختاره الشوكاني وغيره من المحققين وإليه ذهب ابن حزم) [أحكام الجنائز ص 116].
وقد عارض ما تقدم آثار وردت عن بعض الصحابة كابن عمر تنص على رفع الأيدي مع كل تكبيرة وهي مسـتند العلمـاء القائلين بذلك إلا أنه قد ورد عنه خلافه فتعارضت. ولا ينبغي لإمام المسجد أن ينكر على المصلين الذين يرفعون أيديهم مع كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة؛ لأن هؤلاء المصلين يقلدون العلماء القائلين بذلك كالشافعي وأحمد وغيرهما.
والمسألة خلافية ولا ينبغي الإنكار في مسائل الخلاف ما دام أن المخالف من العلماء أهل الاجتهاد وله أدلته وليس في المسألة نص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام سفيان الثوري: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً) [الآداب الشرعية 1/169، دراسات في الاختلافات الفقهية 103/104].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207].
والله - تعالى - أعلم.