ما سر الفصاحة في عاميتنا؟
سؤال محير جداً؛ سبق و أن طرحه العلامة الراحل المقيم البروفيسر / عبد الله الطيب.. ثم تركه هكذا دون جواب و ذهب. و لعله للعجب فعل ذلك عن عمد و إلا فحاشا و كلا أن يكون لقدح في فطنته أو لضحالة في علمه! كيف؟ و هو البحر و نفيس الدر في أحشائه قابع!!.. و إنما لعله قصد أن ننتظر الإجابة لتأتينا ناضجة على لسان هادئ من أهل الاختصاص الباحثين و المهتمين في شتى العلوم الإنسانية ومنها فقه اللغة. ذكر عبد الله الطيب أن بعض المتحمسين في بلد عربي لم يسمه سألوا شيخاً لهم: ما هي أقر ب اللهجات شبهاً بلغة الضاد؟ فكان رده: للأسف هي لهجة أهل الأواسط بالسودان!! هكذا جاءت عبارة المسؤول فجة و ربما لحسرة في نفس يعقوب قضاها. و لكن دعنا نقول إنه حكم ضميره على أية حال و نطق رغم بالحقيقة ناصعة كما هي ثابتة عنده علمياً..
الشاهد هو: فعلاً :ما السر في أن تتجذر العربية شبه الفصحى في أواسط بلادنا و هي محاطة من نواحيها الأربع بطوق من اللكنات الأعجمية المتأصلة كالنوبية شمالاً ،النيلية جنوباً ، الأفريقية غرباً و الأمهرية شرقاً، هذا على سبيل المثال، لا الحصر.
لا جدال في أن هنالك سمات بارزة لها الفضل على لهجتنا كي تعزز و شائج قرباها مع لغة الأم.. لسان حال الوحي و عنوان خطاب أهل الجنة. أليس هذا مما يجعلها و سطية و صالحة للتبادل و الجريان حتى على لسان الأعاجم؟ (عربي جوبا خير دليل). لعل من أبرز تلك السمات هو أخذ لهجتنا لبعض الصفات الوراثية من قواعد النحو و الصرف العربي الفصيح مثل:-
* استخدام صيغة المثنى؛ كقولنا: "قوماك" و "أمشاك" . و لعل في هذا شيء من روح ألفتنا المعهودة . خاصة عندما تخاطب نفسك في شخص صاحب لك تتوهمه. على غرار قول الشعار الجاهلي: قفا نبكي ذكرى حبيب و منزل بسقط اللواء بين الدخول فحومل.
* إثبات أداة التعريف للفعل المضارع مع نون النسوة وإهمال قطع الهمزة؛ كقولنا: "المشن و الجن" (أي: اللائي مشين و جئن) ؛ و كذلك من قبيل قولهم: "الجفلن خلهن .. و أقرع الواقفات". و كأن في قراءة لفظها لممح منم رواؤة ورش عن عاصم ؛ و لعل في ذلك أيضاً علامة حفاوة منا بالأنثى و رفقاً بالقوارير كما احتفى بها الخالق البر الرحيم و رفق بهن أيما رفق.
* حذفنا للفاعل إما خوفاً منه أو عليه؛ مع بناء فعلة للمجهول كقولنا: فلان " قرص و.. كتل ...إلخ" و هي لغة مشهورة عند سيبويه.
* كما أننا نكاد ننفرد بقولنا "داير" بمعنى "راغب" ؛ و هي لفظة ريفية عميقة وافدة من البادية حيث المشقة في طلب الأشياء مع الجد وضرب أكباد الأبل في ذلك بالبحث عنها والسعي إليها . لا أن يكتفى بضغطة على زر صغير كما يحدث في عصرنا هذا.
* العنقريب آلة حدباء سودانية ضاربة في القدم كشفت عنها حفريات أثرية تعود إلى ما وراء شمس الحضارة الإنسانية و عثر على "عناقريب"منها في سقطرة باليمن. مرادفها في الفصحى هو :النعش" و نحن نطلق "عنقريب" على تشكيلة من أنجم متلألئة تظهر ليلاً في كبد السماء في بعض الطوالع و العين الصيفية و لها توابع يسميها العرب "بنات نعش" .. و قيل إن أو ل من شيعت جنازته في الإسلام على نعش كانت السيدة زينب بنت جحش(رضي الله عنها) .. و هي ظاهرة دخيلة نقلها مهاجرو الحبشة من بلاد كان يحمل أهلها موتاهم على النعوش..و ما تلك البلاد الواقعة خلف البحر بعد جزيرة العرب إلا السودان القائم بحدودة الكائنة في يومنا هذا و ليست أثيوبيا كما يزعمون ؛ و الله أعلم.